ذكرياتي مع أبي

الثلاثاء، 14 مارس 2023

 





توفي أبي رحمه الله شابا قبل 42 عاما وعمره 46 لكنه ترك خلالها من الذكريات الجميلة الكثير الكثير .. وأعظمها بره بوالديه وحبه للخير وشرف روحه

كان ذكيا فطنا لماحا لكنه كما يقول المثل العربي السرو التغافل. وقد كانت صفاته القيادية مع بشاشته وحسن أدبه تغشى معارفه

كان رحمه الله منفتحا اجتماعيا ودودا وله أصدقاء من كل المناطق ومن كل الجنسيات وكان يكرمهم ويبر بهم ولاحظ أن هذا قبل نصف قرن

 كان مثقفا يبحث عن المعلومة وقارئا لكل ما يقع تحت يده وقد تأثرنا بذلك أنا وأخوتي حتى صرنا مدمنين للقراءة منذ الصغر.

التحق بالجندية وهو شاب صغير في ١٨من عمره في مكة وقد هرب خفية بدون علم والده الذي كان يحبه حبا شديدا لبره وحسن خلقه ونفعته

وسبب ذهابه للجندية كان لتحسين وضعه ووضع والده المعيشي الذي كان يعيش في البادية في وقت العسر قبل ظهور الثراء في المجتمع

ولما كان يسمع عن تحول حال من التحق بالعسكرية ولمعارضة والده فضل أن يفعل ذلك سرا بعدما أنجز كل مهامه وبعدما اطمئن على والده

وكان قراره بالتوجه لمكة والالتحاق بالعسكرية أفضل من بقاءه حيث ساعده ذلك على تحسين وضع والده وإخوته وأقاربه

كما استفاد منه خلق كثير بعدما فتح الله عليه وأصبح له منصب ووجاهة مكنته من إيصال الخير للآخرين وتوافق هذا مع بشاشته وسماحته


تدرج في الجندية وصار له موقف حيث أساء إليه بعض الأشخاص وكان معتديا فرد عليه مما أدى لأن يطبق عليه عقاب عسكري حيث سجن شهرا

وكان حينها جنديًا لا يعرف القراءة ولا الكتابة فوجد في السجن رجلاً مسنًا كبيرًا يتقن القراءة فطلب منه أن يعلمه

فتعلم منه القراءة والكتابة حيث كان يكتب على أرض السجن الترابية. وأتقن القراءة والكتابة خلال شهر نظرا لطموحه وذكاءه وفطنته

 وبعدما خرج عاد لعمله وتدرج في الجندية والتحق بمدرسة ليلية وكانت الجندية في ذلك الوقت شديدة جدا وكان يكلف في المدرسة بواجب

ولعدم وجود كهرباء وحيث يُجبر العسكر على النوم بعد العِشاء مباشرة فقد كان يضع فانوسا تحت سريره ويغطيه من جميع جوانبه

 ثم يهيئ على سريره وسادة كأنه نائم حتى إذا مرّ المناوب المراقب ظنه نائما ودخل تحت سريره ليكمل دراسته وواجباته المدرسية

وواصل على هذا حتى ثاني ثانوي ورتبته وكيل وحينها أُعلن عن دورة الضباط المرشحين لمن يحمل شهادة الكفاءة المتوسطة (وكان قد وصل إلى الصف الثاني ثانوي) من العسكر فألتحق بها

وكانت دورة شديدة من حيث تأهيلهم لترقيتهم ضباطًا. وتخرج بتقدير متقدم ليصبح ملازما في المنطقة الشرقية وكان ذلك قبل الطفرة

وتنقل خلالها بين عدد من المسئوليات حتى كلف بأن يكون ضابط الأفراد في المنطقة الشرقية..

وبعدها بسنوات كلف بإدارة المدرسة الليلية التي فتحت لاستقبال الجنود لتعليمهم وتأهيلهم بعدما عجز ثلاثة قبله عن إدارتها

وهنا بدأ ما أسميه مرحلة الحصاد لرحلة الكفاح حيث كان يقوم بعمل تربوي للجنود في الصباح كضابط مسؤول وفي الليل كمعلم ومدير

من الملامح التربوية أن كل من كان يعمل في مكتبه أكمل دراسته وبعضهم حصل على دراسات علياكما أنه كان يحرص على نشر محبة التعلم

وكان يؤكد على المعلمين بأن الهدف من الدراسة تحقيق نمو الطلاب على المستوى العلمي والاجتماعي ويؤكد على أهمية تسهيل العلم لهم

وكان يعلم أن غرس الطموح والإقبال على الحياة والعصامية أهم من كثير من الأساليب الأخرى.. وكان هذا ديدنه مع الجميع في كل مكان

كان رحمه منذ طفولته يتحمل أعباء الآخرين حيث كان أكبر أخوته وتوفيت أمه رحمها الله وتركت له أخوين صغيرين وهو غلام فقام بدوره

مع والده خير قيام وقد مرض والده مرضًا شديدا أشفى منه على الموت فتحمل مسئولية الجميع وطبع ذلك روحه بالرحمة والمودة والرفق

كما أعطاه درسًا في أن له دورًا مهمًا في الحياة يحتاجه الآخرون.. وهذا ما لوّن جميع مراحل حياته حيث لم يمر بمحتاج إلا ساعده

هنا مسألة نفسية مهمة جدًا حيث تنعكس المساعدة للآخرين بمشاعر سعادة تدفع الإنسان للزيادة في عمل الخير وعدم احتقار أي معروف

وكان من حسن حظه أن أمي رحمها الله كانت توافقه في هذه الأخلاق فكانت خير معين له ولهذا حديث آخر

كل ذلك السلوك والمبادرة لنفع الآخرين كانت لدى أبي لها أولويات كان أولها والده ولهذا فقد أضفى على حياة والده البهجة

مما جعله يرضى بما فعله من هربه بدون إذنه وعرف أن الحق كان مع ابنه وصار مفخرة له حيث كان سببا في جريان الخير على يد والده

ذلك الجد الحبيب الذي كان يبكي حزنا على ذهاب ابنه محمد إلى العسكرية شفقة على ابنه ومحبة لبقائه عنده

أصبح الجد يضحك حين يناديه الآخرون هذا أبو محمد الله يبقي لنا فيه ويوسع عليه مثل ما وسع علينا

لما توفي أبي رحمه الله مرض بعدها بسنتين جدي فلما أخذه عمي ليكشف عليه قال لا تعبون أنفسكم مرضي من موت محمد

لم يملأ حياة الجد أحدٌ بعده وهذا ما حدث لكل محبيه رحمه الله.. ومن العجائب أن بعض الناس لم يعلم بموته سوى بعد٢٧سنة فبكاه بكاءً شديدًا كأنه توفي الساعة.. ثم بعد موته انكشفت أسباب محبة الآخرين له حيث كان يُنفق على بعضهم وكأنهم أبناءه

ومن نعم الله عز وجل عليّ وعلى إخوتي أننا لم نحتج لأحدٍ بعده وقد توفي قبل ٣٤عامًا وبرغم أنه لم يخلف ثروة كبيرة كزملائه رغم ما كان يكسبه بسبب سخاءه وكرمه وكثرة إنفاقه على قرابته و على المحتاجين

إلا أن الله بارك فيما ترك حتى زوجت أكبر أبنائي بشيء مما خلفه أبي رحمه الله.. ومازال كثيرون حتى اليوم يعيشون على بقية منه

كل ما ذكرته عن أبي رحمه الله لأبين أثر البرّ وحسن الخلق والعصامية. وكلما أحسنت حيّا كلما أمتد الأثر عليك بعد موتك

وامتد الأثر على أبنائك بعد موتك.. كثيرون يتركون الأموال الطائلة لأبنائهم ولكنهم يختلفون حتى يصلوا إلى المحاكم!!

مات أبي رحمه الله قبل ٣٤سنة ومازال ذكره طريّا ثريا حتى اليوم بفضل الله وقلما جلست مجلسا فيه أحدٌ عرفه إلا أثنى عليه

حتى إن أحد أصدقاءه القدامى الذين انقطعت علاقتنا به منذ وفاته قابل أخي مصادفة وألح عليه أن نذهب لزيارته بشدة حتى استجبنا له

كما أن بعض من أصدقاءه القدامى لا زال التواصل معهم  حتى اليوم ولله الحمد.

كتبت ذات مرة عن والدي: سيقول من لا يعرفه: مال هذا أزعجنا بوالده؟ وسيقول من يعرفه: مال هذا العاق لا يحسن الحديث عن أبيه؟

لا يعرف الشوق من لا يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها. ٣٤عامًا مرت على وفاة أبي وأمي ومازال جرحهما كأنه اليوم رحمهما الله

أعدت قراءة ما كتبته فانبعثت الذكرى حارة ساخنة لم تقنع إلا بمدامعي اللهم إن عبادك شهدوا لوالديّ بالخير اللهم لا تخيب رجاءنا

كل ثناء تثني به على إنسان فأنت مكافئ له في الفضل.. إلا والديك فلن تبلغ ثناءهما أبدًا!!

0 التعليقات :

إرسال تعليق

 
بوح قلمي ،،، أبو بكر بن محمد | by TNB ©2010 وتم تعريب القالب بواسطة مدونة نصائح للمدونين .