أيها الذهبي لماذا تخجل؟

الثلاثاء، 14 ديسمبر 2010


     كنت كتبت مقالا بعنوان الرجل الصحيح في المكان الخطأ ونُشر في لجينيات-مع الشكر للقائمين عليها- وكان المقال تناول في آخره تنويها بالأشخاص الذهبيين الذين يمرون علينا دون أن يحدثوا جلبة أو ضجيجا للتنويه بإبداعهم ومواهبهم هضما منهم لأنفسهم وتواضعا يبتغون به البعد عن الكبر وحب الشهرة.
وهم مع ذلك لايتوفر لهم من يعتني بهم ويكفيهم متطلبات حياتهم اليومية فيوفر بذلك رعاية لمواهبهم ويحتضنها لتنمو وتزهر فلا يجدون هذا  من قبل المحيطين بهم ولامن قبل المؤسسات الحكومية والأهلية فيقضون حياتهم بين خجل وخمول وربما لايُفطن لهم إلا بعدما يخبو بريق حماسهم ويتعرضون لاحباطات متوالية تجعل بعضهم يفضلون قضاء بقية حياتهم في مناطق هامشية لاتقدم أي استثمار لمواهبهم وطاقاتهم.
وأشدّ من ذلك ألا يُفطن لهم إلا بعد وفاتهم وقديما قال أبو الأسود الدؤلي :إذا أردت أن تعظم فمت.فينتبه الناس لهم بعد فقدهم وهذا يحدث  مع الأشخاص العاديين أمّا الموهوبين فسيكون فقدهم أعظم.
وكثير من هؤلاء إنما ينطوون على أنفسهم زهدا في الدنيا وزهرتها وشهرتها الزائفة وهذا وإن كان مطلوبا من كل أحد إلا أن زكاة العلم والموهبة والإبداع النافع للبلاد والعباد واجب عليهم أيضا،وهنا ندخل في موازنة صعبة خاضها كثير من العلماء والعباقرة وقديما كان يصنف فيها العلماء مباحث تحت عنوان (فضل الخمول)لكن الزمان تغير وأصبحت المسألة صراعا بين الحضارات وبين الملل والغلبة للأقوى فكرا وإنتاجا.
وتجد كثيرا من هؤلاء يُبدون شيئا من إبداعاتهم على استحياء خوف عدم قبولها أو التقليل من شأنها رغم أن المثبطين لهم لو جاءهم أهون منها بكثير من أولئك الشقر ذوي العيون الزرق لطار بها فرحا ولأخذ يُسوق لها بين المشرقين ويدعو لهم أكثر من دعائه لأمه وأبيه.
حضرنا ذات مرة لقاء جمع متخصصين في مجال من المجالات يصلون إلى قرابة الثلاثمائة وقام أحدهم بعرض تجربة مبتكرة وجميلة وهي كما يقال من السهل الممتنع،وبعد اللقاء في اليوم الثاني قابله أحد زملاءه فسأله صاحب التجربة عن انطباعه عن العرض الذي قدمه ورجا أن يكون فيه فائدة وأخذ يعتذر عن فكرته وتقصيره في العرض فردّ عليه زميله بقوله:يا أخي كثرّ الله خيرك لقد كفيت ووفيت وأنت قدمت مالم يستطع الحاضرون على أن يقدموه مع أن بعضهم يعمل في نفس المجال أضعاف سنوات خدمتك.فلماذا تخجل ؟
أذكر أني كنت مرة قبل خمس وعشرين عاماً مع أحد الأصدقاء في مدينة أبها ومرت أمامنا سيارة فاخرة لكنها غير مألوفة فقال صديقي أرأيت هذه السيارة إنها صناعة محلية وسائقها هو الذي صنعها فلم أصدقه وكان شاباً سعوديا من أهل أبها ، فقال صديقي هل تريد رؤيتها فقلت متشوقاً نعم ، فلما لحقنا به وكان يعرفه أشار إليه بالوقوف ثم سلمنا عليه واستأذناه  في النظر إلى سيارته فأجاب بارتياح ونوع من السعادة على محياه ولما تفقدنا سيارته  وتفحصناها من جميع جوانبها حتى وصلنا إلى خلفيتها فلما فتحنا بابها الخلفي فوجئت بأنه قد تركها من الداخل بدون تغطية للحديد ودون صبغ فلما سألناه عن ذلك قال حتى يتأكد من يراها أنها من صنع يدي وقد حفر على حديدها أسمها (أبها 1402) وقد كانت فاخرة شبهناها في ذلك الحين بالكاديلك الأمريكية.
واسم صاحبها المغيدي وهو من أهل أبها وقد قام بصناعتها من الألف إلى الياء ولا أعلم عنه شيئاً قبل ذلك اللقاء ولا بعده إذ طوته زوايا النسيان، ولا أشك أنه قد عرض نفسه على معارض كثيرة وجهات كثيرة ولكن ماهي النتيجة ؟
وإني لأتساءل عن ذلك الذهبي أليس أجدر بالحفاوة من هيئات ضخمة تقاضت مبالغ ضخمة وسخرت لها إمكانات هائلة لتخرج لنا غزالا واحدا مع توافر الإمكانات وتطور المعلومات وسهولة الحصول على الخامات فيما قام صاحب(أبها 1402) وحده ودون مؤسسات تساعده ولا هيئات بحث قبل ربع قرن بصناعة سيارته.
إن هؤلاء الموهوبين ذخيرة يجب ألا نفرط فيها وكنز مدفون إن لم نستخرجه بقي مطموراً لا يستفاد منه، ولنعلم أن الموهبة مثل الماء إذا جرى عذّب وإذا ركد أسن،وتحريك مياه الموهبة إما أن تكون من داخل صاحبها وذلك إذا كان صاحب همة قوية وطموح ، وإما تأتي الرياح التي تحرك أمواج الموهبة من الخارج وهذا الخارج هو المجتمع المحيط بما فيه من أشخاص يقدمون التحفيز والدعم و قد يكون أفضل ما يستطيعون تقديمه مقتصرا على كلمات الثناء والتشجيع-وحسبك بها في أحيان كثيرة- التي تدفع بصاحب الموهبة إلى مراحل متقدمة من الإبداع.
على أن الموهوب الذي يعرف نفسه يجب ألا يركن إلى انتظار التشجيع والدعم من الآخرين لأنهم لا يعيشون همه ولا يحسون بمشاعره كما أن غالب الناس إنما يبحثون عن من يعطيهم بلا مقابل وقليل منهم الشكور.
وإذا كان سؤالنا لك أيها الذهبي صاحب الموهبة لماذا تخجل؟فإننا قد نسألك فيما بعد لماذا تكسل؟

كتبه/أبو بكر بن محمد
17/4/1431هـ
Kmys99@yahoo.com

0 التعليقات :

إرسال تعليق

 
بوح قلمي ،،، أبو بكر بن محمد | by TNB ©2010 وتم تعريب القالب بواسطة مدونة نصائح للمدونين .