الليبراليون والوقوف على أعتاب القرن السابع عشر

الأربعاء، 28 مارس 2012



حينما تقرأ لكتابات الليبراليين العرب لابد أن تستوقفك قضية مهمة تعتبر مفصلية عند جميع الليبراليين وهي إعجابهم بعصر التنوير ووقوفهم مليّاً عند القرن السابع عشر باعتباره مفصلا من مفاصل التاريخ -وهو كذلك- إذ تغير مسار العالم وظهرت بعده الثورة الفرنسية والثورة الصناعية والنقلة الحضارية للغرب أولا ثم العالم ثانيا.

والقارئ المسلم لا يثيره هذا الإعجاب بالنقلة التاريخية الكبرى لأوروبا التي انتقلت بها من العصور الوسطى المظلمة وانفكاك رقبتها من سلطة الكنيسة وتسلط الإقطاعية لتنتقل إلى عصر الثورة الصناعية لتصبح بعد ذلك "العالم الأول" وتتحكم في العالم حتى الآن ؛ لكن ما يثير حفيظة القارئ المسلم هو اعتقاد تساوي الديانة الإسلامية مع النصرانية المحرفة؛ويثير حفيظته أيضاً محاولة استنساخ الظروف الاجتماعية واعتبار أن القرن السابع عشر الأوروبي يمكن أن يتكرر في العالم العربي وكأن هنالك محاولة إعادة لعجلة التاريخ مع الاختلاف التام للظروف والملابسات والمؤثرات.
فلا الدين نفس الدين ولا التاريخ نفس التاريخ ولا الاستبداد نفس الاستبداد وكل باحث في العلوم الإنسانية يعلم استحالة تطابق حالة مجتمعين.وإذا كان من المستحيل أن تجد  شخصين متشابهين في كل شيء ولو كانا من التوائم المتطابقة فإن من السذاجة أن تنتظر تكرار تجربة مجتمعين صغيرين أحدهما في شرق العالم والآخر في غربه مهما كانت أوجه التشابه بينهما ؛ فكيف يمكن بعد ذلك أن تقول بتكرار تجربة أمتين في ظرفين زمنيين متباعدين ومكانين مختلفين كل الاختلاف .
لكن يبدو أن الأمل لدى الليبراليين العرب أقوى من كل المستحيلات إذ مازال إعجابهم بالقرن السابع عشر وأحداثه إلى حدّ الافتتان به ومحاولة استنساخ التجربة الأوروبية وتنزيلها على الحاضر العربي وهم يراهنون على الوقت وعلى حشد الظروف المشابهة التي تقرب الواقع العربي من الصورة التاريخية لعصر التنوير حتى لو دعاهم هذا للي أعناق الحوادث الاجتماعية والشواهد التاريخية.
وسرّ إعجاب القوم بالقرن السابع عشر يشرحه لنا خالص جلبي في إحدى مقالاته : (يعتبر القرن السابع عشر والثامن عشر من أجمل عصور أوربا عندما بزغت كمية من الأدمغة النابهة واللامعة والتي طرحت على نحو جريء تصور جديد للعالم بحيث حققت قطيعة معرفية مع روح العصور الوسطى وظلاميتها وتعصبها) مقالة  إيمانويل كانط فيلسوف التنوير.
وللعلم فإن خالص جلبي ممن يتنقل بين فكر وآخر وتيار وآخر ولا يمكنك أن تعده ضمنهم وهو أقرب لفلاسفة الإسلاميين منه إلى الليبراليين بحسب قراءاتي وإنما نقلت عنه هذه العبارة لوضوحها واختصارها لسبب إعجاب القوم وافتتانهم بالقرن السابع عشر.
وتلك النقلة العظمى التي ذكرها جلبي تبعتها نقلات كبرى في مسار الفكر الغربي كانت فعلا بمثابة التنوير نظراً لما كان عليه الغرب قبل ذلك ولتوضيح أثر عصر التنوير على الغرب تقول لمى فريد العثمان: (إذا ما أردنا أن نفهم سبب خروج الغرب من عصور الظلام إلى عصر التنوير ومن ثم الحداثة وما بعد الحداثة، فعلينا أن نفهم ثورات فلسفة العلوم (الابستمولوجيا) التي شهدتها أوروبا منذ القرن السابع عشر حتى يومنا هذا، بينما نمنا نحن في كهوف القرن الثالث عشر ولم نستيقظ بعد. إن السر وراء تطورهم وتخلفنا هو في إحداث الثورات الفكرية تلو الثورات الفكرية، التي بدأت بتحولهم من العصر الأيديولوجي إلى العصر الابستمولوجي (أي المعرفي)، بينما لا نزال نحن سجناء تلك المرحلة الايديولوجية… فالقطيعة الابستمولوجية (أي الانفصال أو التحول المعرفي عن المنطق القديم)، مرت عبر مخاضات تاريخية عسيرة دفعت الشعوب الأوروبية ثمنها، فكانت مفتاح دخولهم إلى عالم الحداثة.
لقد أحدثت الثورات الفكرية في أوروبا ثلاث قطيعات ابستمولوجية كبرى .) مقال: لماذا لا نستيقظ ؟ -موقع الحداثة.
أما وقد سرّعرفنا إعجاب القوم بالقرن السابع عشر وسبب تقدم أوروبا وهو القطيعة بين الدين والعلم وبين العقيدة والحياة ، فلنشرع الآن في ما نحن بصدده من التعرف على افتتان اثنين من أهم عرابي الليبرالية العرب وهما شاكر النابلسي وهاشم صالح إضافة إلى السعودي تركي الحمد.
ودعونا نأخذ جولة مع الثلاثة الذين يمكن أن يكونوا من أهم عرابي الليبرالية العرب ثم نقف فيما بعد بعض الوقفات :
أولا: شاكر النابلسي :
وأهمية شاكر النابلسي في الوقت الحاضر ظاهرة حتى لكأنه المرجع الأول والأستاذ الأكبر لليبراليين العرب الذين تحفل برأيهم وسائل الإعلام والصحافة الخليجية التي تمارس عملية دعوة علنية وصريحة لمبادئ الليبرالية.
يقول شاكر النابلسي في مقال له بعنوان كيف تتحاشى الثورات العربية السقوط في البئر المهجورة؟ منشور في الوطن القطرية (ان انتقالنا الى الحداثة سيمر أيضاً بنفس المسار: تحويل نصنا التراثي الى موضوع نسائله بالعلوم الانسانية، لمعرفة ما وراء أبعاده الرمزية من عوامل موضوعية، وما وراء حمولته الروحية من مكونات تاريخية. ولنا في النخبة الأوربية الحديثة قدوة حسنة: فقد فصلت منذ «الرسالة اللاهوتية- السياسية» في القرن السابع عشر، بين العقل والنقل. وجعل الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632-1677) النقل خاضعاً لمساءلة العقل، مثله مثل أية ظاهرة طبيعية. وهو مسار توجَّه اليه في أيامنا عالم السومريات والمؤرخ الفرنسي المتخصص في تاريخ الديانات جان بوتيرو (1914-2007)، الذي حلل على، ضوء تاريخ الأديان المقارن، الجذور الوثنية البابلية للكتب التراثية المقدسة.).
وفي مقال له بعنوان الليبرالية السعودية بين الخفاء والتجلّي في الوطن السعودية يقول: (فهذه هي مظاهر الليبرالية السعودية. صحيح أن لا تنظيم لها، ولا زعيم لها، ولا أبَ روحياً أو سياسياً لها، ولا تتحرك كجبهة واحدة، أو تخاطب الرأي العام السعودي كعصبة واحدة، ولكنها على أية حال، حاضرة في كل مناسبة، وتتجاوب داعمة ومناصرة كل تجديد، وكل تقدم في الإدارة السعودية للبلاد. فليس شرطاً أن تكون هذه الليبرالية تنظيمية، فهدفها الأول هو التنوير. ولو قرأنا سِفْرَ التنوير الأوروبي في القرن السابع عشر، والقرن الثامن عشر، لوجدناه عبارة عن مجموعات متفرقة ومتناثرة من المفكرين والمثقفين التنويريين الأوروبيين، لم يكونوا في تنظيم ما، أو عصبة ما، ولكنهم كانوا تياراً فكرياً وثقافياً، أدى في النهاية إلى أن تكون أوروبا، هي ما فيه الآن من تقدم وازدهار. ) .

ثانيا: د.هاشم صالح :
يقول هاشم صالح في مقالة له بعنوان إشراقة الشمس الأولى عصر النهضة الأوروبية وهومنشور في موقع الموقد:
(إنهما إشراقتان: الأولى حصلت في القرن السادس عشر عصر النهضة والإصلاح الديني، عصر ايراسموس ولوثر، والثانية حصلت في القرن الثامن عشر: عصر التنوير. ولكن لا ينبغي أن نستهين بالقرن السابع عشر الذي يتوسطهما: فهو عصر الثورة العلمية الأولى، أي عصر غاليليو وديكارت وكيبلر وكذلك عصر سبينوزا ولايبنتز وبيير بايل، وكل أولئك الذين مهدوا الطريق للتنوير الكبير والثورة الفرنسية. باختصار إنها ثلاثة قرون حاسمة في تاريخ الغرب والعالم كله. فلولاها لكنا نرزح حتى الآن في غياهب العصور الوسطى تحت نير المطارنة والخوارنة والبابوات والتمييز الطائفي...)
وفيه يقول أيضا:
(في كل الأحوال لا يمكن القول بأننا نعيش عصر نهضة! بل عصر ارتكاسة إلى الوراء. إنها ثورات سياسية مشروعة، ولكنها غير مرفقة بثورات فكرية كما حصل للثورة الفرنسية التي احتضنها التنوير ومهد لها الطريق. ولذا فإنّ ثوراتنا تلتحم بالماضي أكثر مما تنفتح على المستقبل. إنها أفضل من اللاشيء بدون شك، ولكنها ليست بالضبط ما نريد!) .
ويقول في مقال بعنوان البدايات الصعبة للحداثة الفرنسية نشر في الشرق الأوسط:
 (ان عصر النهضة كان هو العصر التنويري الاول الذي مهد للقرن الثامن عشر، وبالتالي فنحن مدينون له. ثم جاءت محاكم التفتيش في القرن السابع عشر وكذلك التيار الكاثوليكي المتعصب والمضاد للاصلاح الديني، ولكنهما لم ينجحا في خنق هذا النور أو التنوير الذي كان قد لمع في عصر النهضة. فشعلة التنوير ظلت متقدة على الرغم من كل المحاولات التي بذلها المتزمتون الغلاة من أجل القضاء عليها. ) .
وفي مقالة له بعنوان الأصولية الظلامية والمعركة التي لا بد منها نشر في موقع الحوار المتمدن يقول هاشم صالح:
(لكي نقدم مثالا تطبيقيا على صحة هذا القول يكفي ان ننظر الى القرن الذي سبق مباشرة عصر التنوير في اوروبا : اي القرن السابع عشر. فقد كان عصرا لاهوتيا خطيرا.. انه العصر الذي شهد سيطرة التيار المضاد للاصلاح الديني، العصر الذي حاكم غاليليو، واجبر ديكارت على الهرب من فرنسا، وارعب سبينوزا.. انه عصر الحروب المذهبية والاهلية التي اجتاحت اوروبا. انه عصر الارهاب اللاهوتي الذي لا يقل جبروتا عن ارهاب طالبان او بقية الاصوليين الحاليين
. ومع ذلك، فبعده بعشرين سنة فقط، دارت رحى المعركة بين التنويريين والظلاميين وكانت النتيجة لصالح التنوير : اي لصالح توليد تفسير جديد للدين. وهو تفسير تحريري، لا قمعي ولا ظلامي. هنا يكمن طريق الخلاص : بلورة فهم آخر للتراث الديني غير الفهم السائد والمسيطر منذ مئات السنين والذي يحاول الاصوليون اقناعنا بانه هو وحده الممكن.. هكذا انتصرت اوروبا على نفسها، وحلت عقدتها التاريخية المزمنة المتمثلة بذلك الصدام المروع ما بين العقل اللاهوتي والعقل العلمي او الفلسفي. هذا الصدام ما بين اللاهوت القروسطي والحداثة لا يقل خطورة عن اصطدام الطائرات الانتحارية ببرجي مركز التجارة العالمي في نيويورك !).
ثالثا:د. تركي الحمد  
يقول تركي الحمد في مقال بعنوان  الليبرالية ببساطة: عش.. ودع غيرك يعش. منشور في صحيفة الوطن :
(الليبرالية بكل بساطة، لمن تشوهت لديهم المفاهيم، ودون الدخول في فذلكات فلسفية تدور حول أفكار أساطين الفكر الليبرالي في لحظة زمنية أوروبية ماضية هي شبيهة بلحظتنا العربية الراهنة، مثل جون لوك وجون ستيوارت ميل وجان جاك روسو وفرانسوا فولتير وديفيد هيوم وغيرهم رغم أهميتها…)وهذه أسماء لفلاسفة أكثرهم من رواد عصر التنوير
 وعبارة تركي الحمد الشهيرة:( حين اكتَشَفـَنـا الغرب أو اكتشفناه في القرن السابع عشر أو الثامن عشر) تلخيص واضح لهذه العقيدة التي يعتقدها الليبراليون العرب وهي الإعجاب التام إلى حدّ التقديس للقرن السابع عشر باعتباره يمثل المخلص التاريخي الذي يمكن استنساخه في محاولاتهم الجادة لبعث التنوير في العالم العربي ، فحتميات الإصلاح عند الليبراليين تعتمد على التخلص من الدين وممثلي الدين  استنساخا لتجربة أوروبا التي تعتبر عند جميع الليبراليين الأنموذج التاريخي الوحيد في منذ عصر التنوير وحتى الآن.
والليبراليون العرب متوافقون فكريا ونفسيا في هذا الجانب ولديهم من الشواهد ما يكفيهم عناء البحث عن أدلة بسبب سوء سلوك بعض المتدينين – مظهريا- وبخاصة في مجالات السياسة ؛ وهم حينما يجترون عصر التنوير ينزلونه على الواقع التاريخي الذي يثبت تطور الغرب بعد انفكاكه من ربقة الدين المسيحي الذي كان رجاله يمارسون ظلما بشعا ضدّ الشعوب الأوروبية باسم المسيحية.
لكن أكثر هؤلاء يفوتهم كثيرا-عن قصد أو غير قصد- الفرق بين الديانات الأخرى وبين الإسلام ولذلك يفر كثير منهم من المعارك والمناظرات التي تبحث في المقارنة بين الإسلام وغيره من الديانات بطريقة تفصيلية لا تدع مجالا للمكابرة من قبلهم للاستمرار في الإزراء على الإسلام!. وبعضهم يعيش حالة انفصام فكري وجداني فتراه يقر بالإسلام دينا لكنه يرى أنه يجب أن ينحصر في الجانب الوجداني والتعبدي فقط؛ ومرجعه في ذلك قراءات فلسفية مبتسرة وشواهد فكرية مشوهه.
وهم حين يفعلون كل ذلك فإنما يضعون أمام نواظرهم ماوصل إليه الغرب من تقدم ومدنية لم يحلم بها إلا بعد عصر التنوير ثم الحداثة ثم ما بعدها في سلسلة من التطورات التاريخية التابعة لإطلاق العقل الغربي من عقال المحرمات الكنسية؛مع أن أدنى باحث يمكن أن يعرف بمجرد سياحة نظرية في القرآن الكريم كيف قام الإسلام بثورة لتحرير عقول الخلق فضلا عن الشواهد التاريخية التي تبين كيف سطعت شمس العرب على الغرب بفضل الإسلام كما عبرت عن ذلك المستشرقة الألمانية زيغريد هوينكه في كتابها الشهير.والباحث الجاد لا يمكن أن يخلص من دراسته للقرآن الكريم وصحيح السنة النبوية إلا بأن الإسلام قد أعطى العقل مكانته اللائقة دونما نقص ولا شطط.والذي يحكم على الإسلام من خلال قراءته لبعض ما كُتب فيه ولو من أبناءه دونما رجوع إلى مصادره الرئيسية فإن نتائج دراسته معروفة سلفاً ولا يمكن أن يعتمد عليها أحد إلا من كان في نفسه غرض مسبق قبل بحثه .
لكن افتتان عرابي الليبرالية العرب وكبار منظريها بالحضارة الغربية واستعجال الوصول إلى ما وصل إليه الغرب هو ما أوقعهم في كثير من الإشكاليات الفلسفية ، مع غفلتهم –أو تغافلهم- عن الأصوات الغربية التي تنادي بوجوب عودة الحضارة الغربية للدين ومحاولات الإصلاح التي تنادي بضرورة العودة إلى الأخلاق الفاضلة التي تكاد أن تجتث البقية الباقية منها تلك المادية والفردانية المقيتة في الاقتصاد والحريات وتبعاتها التي انحرفت بالغرب عن أبسط المبادئ الإنسانية التي عرفها الناس على مرّ التاريخ.
والليبراليون العرب مع افتتانهم بحضارة الغرب وتقدمه لا زالوا يعانون كما يعاني غيرهم من الشعوب العربية الواقع المرّ من التأخر والاستبداد السياسي  الذي لم ينفك عن واقع الشعوب منذ قرون ويرون بعض من يوصف بالعلماء-الذين يوصفون بعلماء السلطان- ممن يؤصل لذلك الاستبداد السياسي ويوجب الطاعة للحاكم في كل حال وما مفتي الهالك معمر القذافي حاكم ليبيا ومفتي الهالك قريبا بإذن الله بشار الأسد ببعيد عنا ؛ فكانت هذه الأمثلة مع غيرها كثير على مرّ التاريخ وتعاقب الحكام العرب والمسلمين وبخاصة المستبدين سبباً في قناعة كثير من الليبراليين العرب بوجوب ترسم خطى الغرب في عصر التنوير ومابعده حيث اجتمعت لديهم نفس الظواهر والأسباب من تسلط ديني يدعم الحاكم وإقطاع لفئات محددة لا يمكن لغيرها أن يشاركها.ومظاهر الإقطاع ظاهرة في كل بلاد العرب ولا يمكن أن تدخل دولة من دول العرب دون أن تجد فئات متنفذة تملك أكثر ثروات البلاد مع قلة عددها في مقابل ملايين الجوعى والعاطلين في موازنة مختلة الكفة بطريقة مثيرة ومستفزة للشعوب وكانت هذه إحدى أهم أسباب الربيع العربي.
يؤكد كل هذا الافتتان بعصور التنوير الغربية ظاهرة الربيع العربي التي تحركت فيها الشعوب العربية ضد حكوماتها المستبدة التي حكمتها قرابة النصف قرن لكن الليبراليين يغفلون عن مسألة مهمة – أو يتغافلون- وهي أن أحدا من هؤلاء الثائرين في الربيع العربي لم يطالب بقتل رجال الدين المسلمين-بحسب تعبيرهم-وهم أئمة المساجد والعلماء والدعاة!؛ بل كانوا ينادون بالعودة إلى الإسلام في كثير من مظاهراتهم ؛ كما أنه لم تحدث في الربيع العربي مجازر يقوم بها الثوار كما فعل ثوار الثورة الفرنسية فليت الليبراليين العرب يعيدون تقييم أحكامهم ويحدثون معلوماتهم.
وحينما نجادل هؤلاء الليبراليين العرب فإن كثيرا منا يخطئ في وصمهم بأنهم فاسدون أو يريدون شرّا بالناس بل هم يريدون الخير ويبحثون عنه وهم صادقون في كونهم إصلاحيين لكن أكثرهم كما قال ابن مسعود:كم من مريد للخير لا يدركه.
ولا يخفى أن كثيرا من أتباعهم الذين يصفقون لهم ويؤزونهم شهوانين تحركهم الشهوة والبحث عن الملذات أكثر مما يحركهم صواب الفكرة أو خطأها.كما أن هنالك أعدادا من الأتباع إنما يتحركون كردّات فعل ضدّ الأوضاع السيئة في بلادهم وفقدانهم الأمل في صلاح قادتهم المستبدين وخيبة أملهم في كثير من علماء الدين الذين يشكل بعضهم نماذج سيئة تبحث عن مصالحها الشخصية أو الحزبية الضيقة التي لا تغني شيئاً في الإصلاح العام .
كما أن لوسائل الإعلام العربية دورا مهما في تسطيح الفكر وإشغال الرأي العام عن مسائله الكبرى وإشكاليات الحضارة التي يمكن أن تجير جميع فئات المجتمع فيها لتلعب دورا في بدء عمليات الإصلاح والناظر لحال الشعوب يرى ميلها للهو واللعب وعزوفها عن الإنتاج والابتكار ووسائل الإعلام تحمل الكفل الأكبر من هذه الجريمة لكونها تصوغ الرأي العام وتسوق الشباب ليكونوا مجرد مستهلكين وانظر كم من ساعات البث الفضائي وكم خبرا يتناول راقصة من الراقصات أو مطربة أو لاعب ؛ في حين تكون أخبار المبتكرين والمبدعين والمصلحين لا تتجاوز دقائق معدودة  وأسطر قليلة في الزوايا الجانبية .
والمشكلة الكبرى لعرابي الليبرالية العرب هؤلاء في وجهة نظري من جوانب :
1-افتتانهم بالغرب ومدى ما وصل إليه وبخاصة في جوانب العدالة الاجتماعية وقدرة أي شخص على المشاركة السياسة والاجتماعية ؛ ولا نلوم الليبراليين العرب في هذا إنما نلومهم في العين العوراء التي ترى الجانب المضيء في الغرب وتغفل عن مستوى الانحدار الأخلاقي في الغرب .  والكثير منهم لا يلقي بالاً لهذه الإشكالية التي تجعل الكثير من المسلمين يرفض ذلك اللهاث المحموم نحو اقتباس الحضارة الغربية ولهذا فإن الكثير من مشروعاتهم الإصلاحية المستغربة لن تجد آذانا صاغية من الجميع.
2-جهلهم الفاضح بالإسلام وعدم معرفتهم بمبادئه الأولية إذ كيف ينتقدون شيئاً لا يعرفونه وكل انتقاداتهم إنما هي اجترار لانتقادات الغرب للمسيحية وتكرار للروايات الإسرائيلية بشكل متعمد للانتقاص، وإسقاط كل ذلك على الإسلام وحينما تقرأ لكبارهم دعاواهم في انتقاد الإسلام تضحك -كما تشاء- لمدى الجهل وصفاقة الوجه في تلبسهم لحالة الناقد لمنافع الضوء وهو في قعر كهف طويل ملتو مظلم!.
3-وهم في كتاباتهم أبعد شيء عن القرآن الكريم فلا يحفلون به ولا يستشهدون به ولا بالسنة المطهرة بل تشعر أن أحدهم قد يصاب بحالة هستيرية في حال ردّ عليه أحد بالقرآن أو بالسنة ، فهل مثل هؤلاء يعتبرون مفكرين أو منصفين.وقد يحفل أحدهم بأبيات من الشعر وأمثال العرب أكثر من حفاوته بنصوص القرآن والسنة ثم يدعي أنه ليس عدوا للدين وأن المتشددين يسيئون فهمه ويحملون قوله مالا يحتمل!.مع أن أي باحث أو مفكر يجادل قوما ينبغي أن ينطلق معهم بدءا من مسلماتهم ولو لم يكن مقتنعا بها.ولكن صدق الله تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ).وإنك ليقف شعر رأسك حينما يتناول أحدهم موقفا من السيرة بالتحليل وترى عجبا من هوان الدين عليهم وسخريتهم الفجة بمقام النبوة.
4-فتنتهم في تمجيد العقل والتعويل عليه وفق المناهج الفلسفية وتلك مرحلة نخلها المسلمون الأوائل نخلاً في خلافاتهم مع فلاسفة الإسلاميين ومع المعتزلة وغيرهم من الفرق التي تمجد العقل ،وخرجوا من تلك الخلافات والمناظرات والردود بنتائج أوصلوها لمن بعدهم ونقلوا لهم المبادئ التي يمكن أن يستفاد منها وطرحوا تلك العقليات التي لا طائل من ورائها مثل البحث في الإله والنبوات والروح والعدالة والأخلاق والفضائل النفسية التي يضل بسببها كل داخل في الفلسفة بدون قدم راسخة في علوم الإسلام؛ والليبراليون العرب وبخاصة المنظرين حينما يفعلون ذلك فإنما يحاولون إشباع غرورهم الفكري مع تأثرهم بعصر التنوير الأوروبي الذي قاده الفلاسفة فهم يحاولون استنساخ تجربتهم لكنهم غفلوا عن الفوارق الكبرى بكل أسف وهذا ما لا يفعله الكبار.
5-مع نقدهم لنظرية المخلص التاريخي التي يقوم عليها الحس الديني كما في اليهودية والمسيحية المتمثلة في ظهور المسيح عليه السلام وأكثر الفرق الإسلامية المتمثلة في خروج المهدي المنتظر و نزول المسيح عليه السلام ؛ فمع قيام الليبراليين على نقد هذه العقائد والتثريب على معتقديها إلا أن أكثر الليبراليين واقعين تحت سطوة فكرة المخلص وإن لم يتفقوا على مخلص واحد بل كل مدرسة فلسفية لها مخلصها الذي تأوي إلى دفء حضنه وهم ينتقلون من حضن إلى آخر ولعل أوسع الأحضان المعاصرة هو الحضن الأمريكي الدفيء حتى الآن على الأقل.
6-إعجاب كثير من عرابي الليبرالية العرب بأنفسهم ومستوى فكرهم الفلسفي واعتدادهم بأنفسهم لدرجة التيه يحمل كثيرا منهم على عدم العدل في أحكامهم وتعجب حينما تقرا لكثير منهم حجم الكبر الذي يعيشونه حتى تجاوزوا مرحلة غمط الناس إلى حد أين الناس؟ لا ناس يمكن أن نناقشهم!..
7-مع كثرة إنتاجهم ومؤلفاتهم فهم كذلك الذي يدور في الساقية يكرر نفس عمله في كل يوم ؛ فلا جديد لديه وإنما يقوم بأداء دوره ومهامه اليومية  التي لا تتغير إلا بإرادة صاحب الساقية وكل ما يقوم به لمجرد أن  يحصل على وجبته التي يعيش بها يومه. وهؤلاء إنما يكررون مقولات لا يملون من تكرارها وليس لهم أي إنتاج مثمر وكأن غايتهم مجرد تشكيك الناس في أنفسهم ودينهم ولو كانوا على الحق.تلك هي ساقيتهم التي يدورون فيها أبدا.
9-ألحظ أن بعض هؤلاء الليبراليين لديهم خبرات سلبية مع مجتمعاتهم وبعضهم تعرض لظلم من المستبدين مما قد يفسر سبب تشربهم لفكرة الخلاص المستنسخ من تجربة عصر التنوير وما تلاه من تطورات تاريخية لاسيما حينما يقع المرء في شرك المقارنة المتحيزة بين المجتمعات المختلفة ومجتمعات العالم الأول.
10-لا يمكن لأي مراقب أن يغفل عن مسألة مهمة جدا وهي ما علاقة عرابي الليبرالية العرب بالغرب عموما وأمريكا على وجه التحديد ولماذا هم حاضرون في جميع ملتقياتهم والجوائز الأمريكية والغربية لا تعطى إلا لهم أو من يرشحونه ؟ فهل تقام حفلات التكريم تلك لوجه الله أو لسواد أعينهم أو حتى لاختراعاتهم؟ ولماذا لا تمنح تلك الجوائز للحاصلين على براءات الاختراع من العرب الذين يسهمون في تقدم العلوم على مستوى العالم؟ إن كانت لوجه العلم والفكر!..
11-كثير من هؤلاء الليبراليين لا يحفل بالجانب الأخلاقي ولهذا سترى عجبا في حياتهم الشخصية وهذا ما أفسد قناعة الشعوب العربية بمبادئهم.ولا تعجب حينما ترى حواراتهم تدور حول النسبية الأخلاقية والدينية بشكل يكرس الحرية المفتوحة التي لا تقف عند حدّ سوى الخوف من الآخرين .وسترى نموذجا من التقلب الأخلاقي تبعا للمصلحة الشخصية ،وقد تجد أحدهم مضطراً للتخفيف من لغته الناقمة على الواقع العربي عموما والسعودي خصوصا حينما يؤلف كتابا تدفع له قيمته المجلة العربية (السعودية) فيضطر للمجاملة الشكلية ليسوق لنا الفتنة بالغرب وتجربته تحت الكليشة المعروفة لصحفنا (وفق الضوابط الشرعية) ففي كتابه من الحداثة إلى العولمة يجبر نفسه على التناقض فيما بين تمجيد تجربة التنوير والفلسفة الغربية ويقرنها بضرورة أن يكون ذلك تحت مبدأ لنأخذ منها الصالح ونضع الطالح وهو يعلم تمام العلم أننا لو طبقنا مبدأه هذا لرمينا بالفلسفة التي يتحدث عنها في مزبلة التاريخ الغابر.على أنه في كتاباته الأخرى يظهر الوجه الصريح له فلا يجاملنا ولا يضطر لوضع قيود على مبادئه .
12-من المشكل الأخلاقي عند الليبراليين العرب أنهم لا يلتفتون كثيرا للحالات الإنسانية التي تعج بها بلاد العرب فقضية مثل قضية فلسطين لا تؤرقهم وكأنهم ليسوا معنيين بها.والمصائب التي تنزل ببلاد العرب لا يهتمون بها ولو كحالة إنسانية وخذ مجاعة الصومال كمثال واللاجئين السوريين مثال آخر. وكثيرا ما أتساءل حينما أرى برود الليبراليين العرب تجاه الأزمات والكوارث التي تصيب الشعوب العربية أين هم هؤلاء الذين يدعون المطالبة بحقوق الإنسانية؟وهل قامت الثورة الفرنسية إلا ردّ فعل ضد من يهمل حاجات الشعوب ؟ ومع ضجيج الربيع العربي وهديره الصاخب إلا أن الليبراليين العرب يجفلون من تناوله أو مدحه لأسباب لا تخفى على المتابع.
ملامح  فشل مشروع الليبراليين:
1-أنهم اختاروا الطريق الأطول للإصلاح والذي احتاج أكثر من ثلاثة قرون في عصر التنوير على حين أن النبي عليه السلام لم يستغرق إصلاحه سوى ربع قرن فقط في الجانب الأهم وهو العقدي والأخلاقي.وإذا أضفت ما وصل إليه المسلمون من تقدم حضاري لم يشهد له التاريخ مثيلاً وحتى عهد عمر بن عبدالعزيز رغم كثرة المشكلات الداخلية والحروب تجد أن كل ذلك لم يستغرق سوى قرن واحد فقط.
2-الشعوب العربية ثارت تماما كما كان الليبراليون ينتظرون ثورتها استلهاما للثورة الفرنسية ، ولكن الشعوب العربية لم تقتل أحدا ولم يعلق الثوار المشانق لأهل الدين ولم تعمل المقاصل في رقاب الحكام وأعوانهم.فلماذا؟
3-من ملامح عصر التنوير في أوروبا كثرة أعداد الفلاسفة وقلة أعداد العلماء والمتخصصين في العلوم التجريبية-وذلك لطبيعة تقدم العلم آنذاك- بينما نحن لدينا أعداد مهولة من العلماء العرب والمختصين في العلوم التجريبية وأعداد الفلاسفة العرب لا تكاد تذكر دعك من المتشبعين بما لم يعطوا فإنهم إذا جاء الحق زهق باطلهم وما كانوا يدعون.فلماذا؟
4-الخصام في عصر التنوير كان أصلاً مع الكنيسة والدين النصراني ، لكن عندنا الخصام مع المنحلين وغير المتدينين وهذا وحده يقلب طاولة البحث برمته؛ وانظر إن شئت مدى تفسخ الغرب وتحلله من دينه بعد ثورته لما نجحت ، وانظر مدى رجوع العرب إلى دينهم بعد كل ثورة وإن كانت فاشلة.
5-مع تركيز الليبراليين العرب وإعجابهم بثورات الشعوب الأوروبية وكثرة عزفهم على وجوب الثورات إلا أنهم لم حدثت ثورات الربيع العربي لم يحتفوا بها وخنسوا وكادوا يغيبون عن المشهد مع أنهم كانوا يتنبئون بها لكن بطريقة عكسية إذ خيب الله فألهم وكانت ثورات الربيع العربي دعما للإسلام لا ضده فلله الحمد والمنة.وتكبير الثوار وصلاتهم في الميادين العامة كانت بمثابة الطعنة التي أجهزت على أحلامهم في استنساخ الثورة الفرنسية واستلهام الروح الأوروبية في الثورات.
وختاما فإني أرجو أن يكون فيما سطرته هنا غنية لمن كان باحثا عن الحق من شبابنا المفتون بالليبرالية والفلسفة المبنية على أوهام تكرار تجربة تاريخية ستمر السنون والقرون دون أن تأتي ومثل من يسعى للبحث عنها وتهيئة الظروف لها كمثل من يطرد السراب حتى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ .

كتبه أبو بكر بن محمد
4/5/1433هـ
@abubaker_m







0 التعليقات :

إرسال تعليق

 
بوح قلمي ،،، أبو بكر بن محمد | by TNB ©2010 وتم تعريب القالب بواسطة مدونة نصائح للمدونين .