في بعض البلدان المتخلفة حينما يصل المسافر إلى مطاراتها أول ما يحتاج إليه إن كان لا يعرفها أن يستأجر تاكسي ليستفيد من معرفة السائق في توصيله إلى مقصده بأقرب طريق وأيسر تكلفة كما يتوقع ذلك أي مسافر ؛ لكن الواقع في البلدان المتخلفة أن سائق التاكسي إذا عرف جهل هذا القادم من بعيد يعتبره صيدا ثمينا إذ يعمل على أن يستغل جهله في الحصول على أجرة اكبر فيأخذ بأبعد الطرق ويلف ويدور بالراكب-الجاهل- حتى يريه أن المسافة بعيدة ويدخل به إلى شوارع فرعية وحارات جانبية ويضرب المسافة في مئة ليجعل الراكب في النهاية يدفع قيمة التوصيلة مضاعفة مئة مرة...والسبب في ذلك هو غش السائق وعدم أمانته وجهل الراكب بحقيقة الأمر وحاجته الملحة لمن يعتمد عليه في مشواره لعدم معرفته بالبلد الذي يريد أن يزوره.
هذا بالضبط هو ما يفعله المتفلسفة-المتحذلقين- مع شبابنا حينما يبحثون لديهم عن إجابات على تساؤلاتهم الوجودية ويظنون بهم خيرا ليخلصوهم من حيرتهم...
فيأخذ هؤلاء المتفلسفة في الطواف بهم على كل الشكوك والظنون والأوهام حتى تدور رؤوسهم وتضطرب رؤاهم حتى إذا وصلوا-فرضا- إلى إجابات لتساؤلاتهم كانت تشغلهم فهم لن يعرفوا كيف وصلوا إلى تلك الإجابات !.
فيستمرون مرة بعد أخرى في البحث عن مقاصدهم عبر سائق التاكسي الغشاش الذي يدور بهم مرة أخرى ليستفيد من الركاب-الجهلة- في مضاعفة مكاسبه المادية ؛ والمعنوية التي تشبع غروره.
ومع أن كثيرا من هؤلاء المغترين بالفلسفة -من متفلسفتنا المعاصرين- عرفوا أن الزمان قد تجاوز الحاجة إليها في العصر الحاضر إلا أنهم لشدة فتنتهم بها مازالوا يروجون لها ويستخدمونها كوسيلة للتكسب – ذي الظاهر المعرفي- ومن وجد شيئا يتكسب به فلن يتركه وقد قيل (يمدح السوق من ربح فيه).
الإشكالية هنا أن هؤلاء المسوقين للفلسفة من متفلسفتنا عادوا القهقرى حتى وصلوا إلى ما قبل تاريخ العلوم وعادوا لما كانت تبحثه الفلسفة قبل عشرات القرون بل ربما رجعوا إلى مرحلة حبو العلوم و إلى المرحلة التي اصطلح عليها بالعصر الحجري أو طفولة التاريخ ليبحثوا فيما لا طائل من وراءه لاسيما مع تقدم العلوم الحديثة فضلا عن نور الإسلام الذي أجاب على كل التساؤلات الوجودية التي تؤرق الفلاسفة وتشغل أكثر مباحثهم حيث أجاب على كل الأسئلة التي تتعلق بالإلهيات والرسالات والغاية من الخلق ووظيفتهم وحقيقة الحياة والهدف منها وبين الفضائل والأخلاق وأجاب على مسائل العدل والحق والجمال والخير والشرّ والصراع بين الحق والباطل.
وإذا كان المتفلسفة لا يعرفون ذلك فليس العيب في الإسلام لكن العيب فيهم إذ طافوا على كل ما كتب ولم يعتنوا بما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة وكل واحد منهم له سببه الذي منعه والذي يختلف به عن الآخرين وربما كان أكبر قاسم مشترك بينهم هو العجمة في اللسان أو الفكر.
وأشدّ انتقاداتنا لهم هو أنهم يرتدون إلى الماضي بشدّة أكبر من أعدائهم الذين يصفونهم بالظلاميين.فيما هم الذين يعودون للعصور المظلمة في أوروبا ويتجاهلون ويتعامون عن أنوار الحق الساطعة في جزيرة العرب والنهضة العلمية والحضارية التي تلتها حتى وصلت إلى مشارف أوروبا حتى أشرقت عليها من جنوب جبال البرتات.
والمنصفون ممن عرفوا حقيقة الفلسفة وعرفوا حقيقة الدين نادوا بوجوب ألا تتجاوز الفلسفة حدودها حتى لا تَزِلّ وتُزِلّ.
فهذا جون ديوي أحد كبار علماء القرن العشرين في التربية وعلم النفس والفلسفة يسجل لنا شهادته على الفلسفة في العصر الحاضر وهو يتساءل:(متى تتعلم الفلسفة أن تترك للدين تلك المساءل المحيرة حول الحياة الأخرى؟...)قصة الفلسفةص381
(ويقول إن الفلسفة تتشبث كغزالة أليفة في المشاكل والآراء القديمة... والفلسفة اليوم تفر أمام العلم، لقد فرت العلوم الواحد تلو الآخر منها إلى عالم الإنتاج.وبقيت الفلسفة وحدها كأم مهجورة نضبت حيويتها وتركها أولادها. لقد انسحبت الفلسفة وابتعدت عن الاهتمام بشؤون الناس في هذا العالم ، وقبعت في زاوية متداعية تسمى فلسفة المعرفة.وهي تواجه خطر طردها كل لحظة من هذه المساكن الواهية المتداعية التي قبعت فيها.لأن هذه المشاكل القديمة التي تتناولها قد فقدت معناها بالنسبة لنا.إذ أننا لا نقدم حلا لها بل نحوم فوقها ، ويجب على الفلسفة كأي شيء آخر أن تتناول في بحثها الأمور الدنيوية وتبقى على هذه الأرض وتفوز ببقائها بإضاءة الحياة وإنارتها... )385
فهذا شاهد غربي على خطل الفلسفة وتقحمها لما لاتحسنه.
وأسمع لشاهد آخر من أهلينا وربعنا إذ يقول:
)لقد عنّ لِمُفَكِّرٍ جَبَّار مثل [عباس محمود العقاد] أن يكتب عن {الله} كتابًا يلخِّص فيه آراء المفكرين الغربيين حول [العلة العلية]، فكان أن عثرت عليه، وأنا بَعْد غضّ الإهاب، ضعيف الجناب، فتصوّرت أنه قد أحاط بما لم يحط به مَنْ سلف، وأنه قادر على أن يضع يدي على القول الفصل، الذي لا معقّب له، بحيث لا أحتاج معه إلى مزيد من الكتب، فما زادني إلاّ إيغالاً في الجهل، واستشرافاً لمزيد من المعرفة، مع أنه من أسلم المفكرين المعاصرين، وأحكمهم. ولقد قرأت لعشرات العلماء كتباً في الإلهيات، واستهواني من بينهم [المعتزلة] و[الفلاسفة] كـ[الفارابي] و[ الرازي] و[ابن سيناء] وطائفة من فلاسفة [وحدة الوجود]، وكلّما فرغت من كتاب، تناولت آخر، ولمَّا أزل في لهاث، أشرب من محيطات المعرفة شرب الهيم، وأيقنت فيما بعد أنّ الجميع يدورون في حلقة مفرغة، وأنّ ما كتبوه رياضة فكرية، لا تبلغ بالمتابع غاية...) حسن الهويمل مقال التفكير خارج الجاذبية2.
وهذا كارل يونج الطبيب السويسري المتخصص في الطب النفسي ينقل عنه
إنه بالالتفات بأفكاره إلى السنوات العديدة الماضية التي أمضاها بالخبرة والممارسة أدرك تماما وبوضوح أنه لم يستطع أبدا أن يعالج أي مريض من اعتلال نفسي خطير سواء جسديا أو عقليا مالم يكن في مقدوره أن يقنع المريض ويستميله إلى اتجاه ديني في الحياة ...
فعلام إذا يقوم متفلسفتنا بعكس دوران العجلة لنعود إلى الخلف حين يصدون شبابنا عن التدين وإبعادهم فكريا ونفسيا عن دينهم وحضارتهم؟
وهم في هذا-بعلم أو بغير علم- يرتبكون خطأ أفدح من خطأ المتشددين الذين يُحمِّلون الناس مالا يحتملونه باسم الدين فيصدون الناس عن التدين فهم شركائهم في الوزر أولئك بالإفراط وهؤلاء بالتفريط.
ربما كانت الفلسفة ذات ألغاز عقلية وتميز بعض الناس الذين يبحثون عن تشقيق المسائل والردّ والاعتراض والجدل والمقدمات والنتائج والاستدلال المنطقي؛ لكن كم نسبة هؤلاء إلى مجموع الناس؟
ثم ما الذي يمكن أن نستفيده عمليا من أبحاث لن يضر الإنسان الجهل بها بل قد يكون أنفع له ألا يعرفها أصلاً .
كل حديثي كان للذين يعقلون ؛ ويريد الله أن يتوب عليكم وكان الإنسان ضعيفا.