إنارة النفق المظلم

السبت، 20 نوفمبر 2010

    شدّنا ما تناقلته وسائل الإعلام السعودية هذا الأسبوع على إثر ما نشر عن لقاء صحيفة عكاظ الأسبوع المنصرم في لقاء مع رئيس هيئة مكة المكرمة الشيخ أحمد قاسم الغامدي ومحاولته البائسة في التأصيل الفقهي لجواز الاختلاط والذي يخرج القارئ الذي لاعلم لديه بعد نهاية القراءة بصدمة أشبه ما تكون بإفاقة النائم أو المغمى عليه ليستنتج في النهاية بأن الاختلاط ليس جائزا فحسب بل هو واجب شرعي إن لم يكن فرضاً يأثم الإنسان بتركه ويكون مبتدعاً ومتنطعاً من يفتي بعدم جوازه.

والأدلة التي ساقها الشيخ أحمد قاسم يعرفها كل من له أدنى ثقافة شرعية ولا جديد فيها ولكن قمة التجديد هو في سوقها في مساق محدد سلفاً وحينها يصبح دور المفتي منبشاً ومقمشاً حين وردت له مسألة وطلب منه أن يفتي بجوازها فتراه يسوق الأدلة التي تدعم توجهه السابق بتحليلها وإباحتها وهذا التوجه الخطير الذي يأخذ من نصوص القرآن والسنة ما يتوافق مع هوى طالب الفتيا أيا كان هو دحض مزلة يسقط فيه كل من سعى له وفيه ، وليت شعري هل يعجز من يبحث عن تحليل الخمر عن ما يبيح له تعاطيها وكذلك محلل الربا وهلمّ جرا فيما دون ذلك من نكبات وسقطات وقديماً قيل زلة العالِم يزل بها عالَم.


وإني لأحذر المطبلين لهذه الفتوى من أنّ هذه الطريقة يمكن بها لمن أراد أن يستدل على وجوب الخروج على الحاكم وقتل المسلمين وتكفيرهم إذ أن هذا هو نفس منهج الخوارج الذين يأخذون من النصوص الشرعية ما يؤيد صحة مذهبهم دون سواه.


الذي دعاني لكتابة هذا المقال ليس الردّ الفقهي على ذلك القائل إذ هنالك من هو أفقه مني وأعلم ولكن ما دعاني لكتابته هو ما رأيته في موقع العربية نت من تمجيد لهذا التجديد الذي وصف صاحبه بأنه أضاء النفق المظلم التي يعيشه مجتمعنا وتعقيبات لاتذكر إلا الثناء على ذلك المفتي المجدد الذي أفتى بما تهواه أنفسهم .وطريقة مفتيكم أن كل من أراد استباحة شيء وحشد النصوص التي توافق هواه مجدتموه ، فمالكم إذا استخدم شخص آخر نفس الطريقة وحشد النصوص التي تمنع وتحرم هذا العمل هل تمجدونه مع أنه نهج نفس المنهج أم أنكم ستصفونه بأنه ظلامي.


ومن العجائب أن بعض الذين وردت تعليقاتهم في الموقع قال إنه لا يعبأ بفتاوى المتشددين وإنه يتبع حديث (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك) فانظر كيف وصل حالنا بحيث يمكن كل شخص أن يستفتي قلبه ويستغني بذلك عن فتاوى المتشددين بزعمه ونسي مثل هذا أن الحديث إنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لصحابي  تمكن الإيمان والقرآن في قلبه وظهر على سلوكه وتربى على يد النبي صلى الله عليه وسلم وجاهد معه وترك الدنيا كلها وراء ظهره ليتبع النبي صلى الله عليه وسلم فمثل هذا حريٌّ إن استفتى قلبه أن يهديه ، أمّا شخص من المعاصرين إن صلى صلاة ترك أخرى وإن عمل حسنة خالطها بسيئات ولا يعرف من القرآن إلا القليل قراءة مكسرة دون فهم ولا تدبر وأكثر مطعمه حرام أو مكروه ، فمثل هذا كيف يستفتي قلبه؟


إن هذه الفتنة التي يراد لنا أن نقع فيها من اختلاط الرجال بالنساء دونما حاجة ولاضرورة لهي مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء)

وإذا كانت الفتنة الآن بهنّ فلسفية جدلية فإنها لن تبقى على هذا الحال بل ستنتقل إلى أرض الواقع لا محالة والشواهد تدل على هذا ولن يستطيع أحد بعد ذلك أن يوقف الطوفان ، و ما نأمله ألا تتخذ القضية منحى التلاعب بالدين وليّ أعناق النصوص الشرعية وتجهيل أئمة وعلماء سابقين ولاحقين فمن أراد أن تتبرج نساءه ويخالطن فليفعل ما يسوغه له عقله دون الولوج في إماتة السنة وتبديع أصحابها والاستدلال لأهل الباطل والتحايل على أحكام الشريعة لأن هذا ارتكاب لجرم مضاعف يقول أيوب السختياني رحمه الله:( إن هؤلاء -يعني المحتالين- يخادعون الله كما يخادعون الصبيان ، ولو أنهم أتوا الأمر على وجهه لكان أهون).

وإذا عدنا إلى فتوى الشيخ أحمد قاسم التي ذكر فيها أنه يجوز للمرأة تفلية رأس الرجل الأجنبي عنها وجدناه ألحق بالتفلية قص الشعر والحلاقة!! ثم ما الذي سيمنع عمل المساج ووو...


كذلك جاء في مداخلات المؤيدين أن الاختلاط والمصافحة كانت موجودة في مجتمعاتنا سابقاً ولم تكن تستنكر من المجتمع وهذا صحيح لكن كان أيضاً معها أشياء كثيرة لم تكن تستنكر مثل الغزو بين القبائل ، ومثل أكل مال اليتيم ومثل قهر النساء وأكل ميراثهن وزواج البدل وغيرها من الأمور التي لم تكن تستنكر فهل يكون  ذلك دليلا على جوازها؟


أضف إلى ذلك أن المخالطة بين النساء والرجال كانت تحدث وقلوبهم نظيفة لم تتلوث بعد بلوثات الحضارة المعاصرة ، ومع هذا فقد كانت المجتمعات صغيرة يعرف بعضهم البعض جميعاً وكلهم أقارب يغارون على بعضهم ولو وجد فيهم من تحدثه نفسه بعمل السوء فإنه يعلم أن عقوبته ستكون شديدة وقد تصل إلى القتل أو النفي والبراءة منه من قبل أقرب الناس إليه إذ يعدونه سواد وجه بالنسبة لهم يُعيرون به كل يوم؛ أما الآن فقد كبرت المجتمعات ودخلتها المدنية وأصبح الإنسان يستطيع أن يفعل ما شاء دون أن يعلم به جاره في الشقة المقابلة تبعاً لطبيعة الحياة المعاصرة وقد لا يعرف حتى اسمه ولا شكله وإن كان جاره لسنوات وفي حال حدث نوع من الفضيحة فما أسهل أن ينتقل إلى حيٍّ آخر في أطراف المدينة الواسعة ليستتر ويُعفي أثره ثم يُنسى بعد ذلك خبره على عكس المجتمعات الريفية القديمة التي كانت تمارس رقابة وضبط اجتماعي يعدّ أشد رهبة من وزارات الداخلية وهيئات الأمر بالمعروف مجتمعة.


إن هذه الفتوى البائسة للشيخ أحمد قاسم فتحت أنواعا لا تنقضي من العجب وهي لعمر الحق من المضحكات المبكيات وشرّ البلية ما يضحك إذ أنها مع سابقة لها من شيخ ذا منصب كبير تصبّ في بحر من الانتكاس –العلمي غيرالمؤصل إن صح التعبير- لا يذكرنا سوى بحال شيخ الأزهر الذي يمثل صورة ما يعرف في الأدب بالإخوة الأعداء الذين لانسمع منهم إلا ما يسوؤنا ويفرح الأعداء ونحن نعلم جميعاً أن المحن تحمل معها المنح ولعل من المنح التي نرجوها أن يراجع كثير من الناس منهجهم في التلقي وأصوله والاستدلال وطرائقه ويبحثوا عن الثقات الذين يؤخذ عنهم الدين ،وقد تعلمنا من السنن التاريخية بين الحق والباطل أن من لبّس الحق بالباطل طمعاً في شهرة أو مكاسب مادية أن الله يلبسه لباس ذلّ أمام الأشهاد ويملأ قلوب الناس سخطة له حتى من الذين يطبلون له إذ يرونه حقيراً يشترى حين يقدم التنازلات لهم الواحدة تلو الأخرى.


وأمّا المتأول الذي يرى أنه على حق ويبحث عن الحق الذي يسنده الاستدلال الصحيح فإنه لا يلبث أن ييسّر الله الهدى له حيث كان.

وإني في الختام أوجه دعوة لجميع الإعلاميين بأن يفسحوا الطريق لجميع الآراء وكما ينشرون ما يؤيدونه فلينشروا ما يعارضه  وأن يبتعدوا عن الانتقائية المضللة .

كما أرجو من جميع الباحثين عن الحق أيّاً كانوا بأن يتحروه حتى يصيبوه لامحالة كما أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم:( من يتحرّ الخير يصبه ومن يتق الشرّ يوقه)


اللهم يسرنا للهدى ويسّر الهدى لنا، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.


خالد بن محمد الشهري

الخبر
Kmys99@yahoo.com

0 التعليقات :

إرسال تعليق

 
بوح قلمي ،،، أبو بكر بن محمد | by TNB ©2010 وتم تعريب القالب بواسطة مدونة نصائح للمدونين .