تقول العرب استنوق الجمل إذا شُبّه بالناقة وأصله مثل ذكر عن طرفة بن العبد وقوله استنوق الجمل : يضرب للمخلط الذي يكون في حديث ثم ينتقل إلى غيره ويخلطه به ولمن يظن به غَنَاء وجلدا ثم يكون على خلاف ذلك.
كان جملنا يُحدّث الناس عن ضرورة تغيير المنكرات وصدّ عاديات المنحرفين وبذل الوسع في تعديل الأخلاق وعدم السكوت على المنكر ووجوب تغييره بكل وسيلة ممكنة .
وكنا نُكبر فيه حميّته على الدين وغيرته على المحارم ،وشحذه الهمم وحثه على التكاتف لصدّ عاديات البدع والشذوذ الفكري فضلاً عن المنكرات وبقي على هذا سنوات وسنوات وأقام عليه منهجاً أصّله بكتب ومحاضرات ودروس كانت عامرات ؛ ثم ماذا؟
ثم هجمت عليه بعض المدلهمات فتصلّب فيها حتى ظننا أنه سيعيد سيرة ابن المسيب وابن جبير وسلطان العلماء فحُجز وحُجب ومورس معه نوع من غسيل الدماغ الذي يجعل الحليم حيراناً والشجاع جباناً،فخرج بعقل غير الذي دخل به فسبحان مغير الأحوال .
لقد كنا ننكر عليه في حاله الأول التشدد في الانكار ومحاولة تجييش حشود المحتسبين لانكار المنكرات والطريقة التي كان يسوقهم بها.وكنا نأمل أن يخفف من غلوائه حتى يخف الشحن النفسي والتهييج العاطفي الذي كان في الاتباع ، وفرحنا بحجبه مع حبنا له لكننا كنا نتخوف عليه وعلى أتباعه وعلى المجتمع من تلك العاطفة المتقدة ومن استمرار غليانها.
ومع كل ذلك لم نظن أن يتبدل حاله من النقيض إلى النقيض فبينما كان يشدد النكير على أمور يمكن التجاوز عنها إذا به الآن لايكاد ينكر منكراً بل ربما تلمس الأعذار والأحكام الشرعية وبحث المسألة وبسطّها ويسّر حكمها حتى غدت بعض الكبائر هينة وأمرها يسير ويمكن أن يجد لها مخرجا شرعيا يخفف به من عقدة الشعور بالذنب لدى المستفتي أيّاً كان حاله.
وقد بلغ به حدّ التخفف والتيسير أن لم يعد هنالك داع للقلق ولا للانكار فكل شيء غدا عنده سهلا وميسورا ولله الحمد.
وسبحان مغير الأحوال فبينما كنا ننتقد عليه في حاله الأول أنه كان يسعى لما يطلبه جمهور المتنطعين والمتشددين،إذا به ينتقل في حاله الجديد ليلبي ما يطلبه اللاهون المتساهلون .
أفلا يذكرنا ذلك بقولهم(استنوق الجمل).
نحن نعلم أنه مورست في حقه ضغوط ولكننا نعلم يقينا أنها كانت لمطالبته بالسكوت وغض الطرف عن بعض الانحرافات،ونحن أيضا متأكدون أن هذه الضغوط لم تمارس عليه ليكون محللا بعد أن كان محرما وليكون ميسرا بعد عنت التشديد.
وإن لنا رجاء في الله الكريم أن يأخذ بيده ليعود إلى الوسط الذي تميزت به الأمة ويستثمر ما وصل إليه من علم وشهرة ومجد فيما يعود عليه بالخير في آخرته ولايكونن سعيه في المجد والشهرة سببا في نقصه وثلبه.
يامالُ والسيّد المعمم قد يُبطره بعد رأيه الشرف
نحن بما عندنا وأنت بما عــنــدك راضٍ والرّأي مختلف
ومثل هذا الحال يدعونا للتفطن فيما يُعرض علينا من الأمور حتى نزن الرجال بميزان الحق ، و ما كل سيد مطاع يُتبع على جميع أقواله فإن لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة ، وأخطر الزلات هي زلات العلماء لأنه يهلك بها خلق كثير ، وقد حذر السلف الصالحون من إتباع زلة العلماء كما ورد ذلك عن معاذ بن جبل وغيره ، وقد نهى نبينا صلى الله عليه وسلم أن يكون أحدنا إمعة يُحقبُ دينه الرجال ، وبين لنا أن الإمعة هو الذي يتبع الناس على كل حالٍ في الخطأ والصواب .
وإنّ من السادات من لو أطعته دعاك إلى نارٍ يفور سعيرها
ولهذا نُقل عن السلف النصيحة بالاقتداء بمن مات لأن الحي تخاف عليه الفتنة ، وفتنة المتبوع فتنة لمن وراءه من أتباع،وقد أمر ربنا عزوجل نبيه بالاقتداء بالأنبياء من قبله(أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) [الأنعام : 90] كما أمرنا ربنا عز وجل بالاقتداء بنبيه عليه الصلاة والسلام فقال عز من قائل:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً )[الأحزاب : 21]
ومعرفة هذا ووضوحه يضبط مسألة الاقتداء ،وبخاصة أن هنالك أشخاص يعتقدون أن بعض العلماء لا يخطئون حتى وصلوا بهم إلى مراتب القداسة من حيث لا يشعرون ، وإذا كانت سادت الدعوة في زماننا هذا إلى ترك التعصب المذهبي حتى آتت ثمارها فترك متعصبة المذاهب التشدد في تمسكهم بمذاهبهم ، إلا أن الشيطان أبى أن يتركهم حتى أقام لهم أعلاماً يتعصبون لهم حتى قام التعصب لبعض العلماء والدعاة المعاصرين مقام المذهبية السالفة، وكل متبع له في اتّباعه أرب فمنهم الباحث عن الحق ومنهم المتردد المحتار ومنهم المتتبع للرخص وللأيسر والأخف.
وما جملنا الذي استنوق إلا مثال لمن أصبح يتبعه جموع الباحثين عن الأيسر والأسهل دون اكتراث للحق والدليل وإنما لمجرد التشهي وحجتهم في ذلك (اجعل بينك وبين النار شيخ). ونحن نقول للشيخ اجعل بينك وبين النار حجابا.
اللهم خذ بنواصينا وإياه والمسلمين إلى الخير والحق وجنبنا شرور أنفسنا ونعوذ بك من شرّ الشيطان وشَرَكِه وشِركِ
أبوبكر بن محمد
Kmys99@yahoo.com
0 التعليقات :
إرسال تعليق