المشهد الثقافي

الأحد، 21 نوفمبر 2010

     حينما دخلنا المدرسة في أوائل  التسعينيات الهجرية كانت أحب الحصص لدينا حصة التربية البدنية التي كنا نستمتع فيها بالركض والجري والصراخ دون أن نتعرض للضرب من قبل المعلمين إذ هي الحصة الوحيدة التي يتاح لنا فيها إضافة إلى الفسحة أن نفتح أفواهنا لنتكلم بصوت عال دون التعرض لعقوبة وإن كان ذلك لا يمنع من وجود معلم يعكر علينا هذه اللحظات  أثناء  اليوم الدراسي في زمن كانت العقوبة القاسية الجماعية بسبب وبدون سبب أمرا مألوفا وغير مستنكر لا في المدرسة ولا في المجتمع ، وجيلنا يحمل ندوبا كثيرة في وجهه أو نفسه كشاهد على تلك المرحلة التي كلما تذكرناها وقارناها بما يجده أبنائنا اليوم لا نستطيع أن نخفي مشاعر الحسد(الغبطة) لما يحصل عليه أبنائنا اليوم من دلال.وقد نعيرهم في بعض الأحيان بما هم فيه رغم أنهم ولاشك في حال أفضل منا في هذا الجانب.

وكنا حينما تحل علينا ببالغ السرور والفرح حصة التربية البدنية نخرج مع صوت الجرس إلى الملعب إذا لم يحدث ما يعكر مزاج الأستاذ الذي لا أتذكر ملامحه الآن وأظن أنه لم يكن سوى أحد المعلمين الذين يكلفهم المدير بإخراجنا إلى ملعب المدرسة ثم يقسمنا إلى فريقين عن طريق اختيار طالبين غالبا ما يكونان أثيران لديه ثم يقوم الطالبان باختيار أعضاء فريقهما وفي البداية غالبا ما يختار كل منهما  أصدقاءه ثم يدخل في حيرة من يختار لتبدأ بعد ذلك مبادرتنا نحن الذين لم نقسم بعد لنجبر أحد قائدي الفريقين بضمنا إليهما عن طريق كثرة الصياح والضجيج الذي يربك القائد ليجعله يختار من ارتفع صوته أكثر أو من تقع عليه عينه أولا مما يعني كثرة صياحنا وقفزنا أمامه ليختارنا؛علما بأن جميع تلاميذ الفصل لابد أن يشاركوا لتبدأ لعبة جماعية لا يعذر أحد من الدخول إليها إلا من كان غائبا أو مريضا ،وكل ذلك يحدث تحت نظر الأستاذ وبرعايته ثم يذهب كل فريق إلى مكانه ليقوم الأستاذ برمي الكرة لننطلق بعدها في سباق محموم نطاردها جميعا ونركلها جميعا في أي اتجاه لا يهم المهم أن نطاردها لنحظى بركلها وربما انتهت الحصة وبعضنا لم يحض بركل الكرة ولو مرة واحدة وهذا لا يهم، المهم أنه جرى وركض وصاح ودفع هذا وأمسك بهذا ولا يوقفنا عن هذا إلا صياح المعلم وإعلانه انتهاء الحصة لنعود أدراجنا إلى الفصل دون أن نعرف شيئا أو نكتسب شيئا جديدا وهكذا حالنا تقريبا حتى وصلنا إلى الصف الرابع والخامس لنتعرف شيئا ما على معنى وجود أكثر من فريق ومعنى المباراة ومعنى وجود مرمى للخصم يحاول كل فريق أن يصل إليه.

كثيرا ما استعيد هذه الذكريات حينما أتابع مشهدنا الثقافي الدائر اليوم والحراك الدائر والصراع الذي لم يعد يخفى على أدنى متابع ثم أتساءل ما الفرق بين ما يحدث اليوم على مستوى المشهد الثقافي وبين ما كنا نمارسه ونحن أطفال فقد كنا ننقسم إلى فريقين اثنين فقط وهاهم بعض من يزعمون أنفسهم كتابا ينقسمون إلى فريقين ولو ادعيت أنك لا علاقة بأي منهما فإن مصيرك الطرد من الملعب عفوا أقصد المشهد الثقافي.

- كنا ونحن صغارا نعبر عن وجودنا بالصراخ والقفز لنلفت قائد أحد الفريقين لضمنا إلى فريقه،فهل اختلف الوضع اليوم للفت نظر رئيس ساحة المشهد الثقافي ؟

- كنا ونحن صغارا لا نعرف معنى لوجود مرمى نهدف عليه وإنما كل همنا الجري وراء الكرة وركلها فقط ، فهل يختلف واقعنا الثقافي اليوم كثيرا عن ذلك ؟

- كنا ونحن صغارا لا نعرف معنى لتوزيع المسؤولية ولا ما يمكن أن نستفيد من تخصص بعضنا في الهجوم وآخرين في الدفاع ،ولا نعرف معنى لوجود فرق أخرى غير الفريقين الذين في الملعب ولا نرضى بذلك بل لابد أن نشارك كلنا في اللعب لنركض ونركل الكرة أو الهواء كيفما اتفق! طوال الحصة حتى يرن الجرس.

- كنا ونحن صغارا نحرص على أن نعيق أفراد الفريق الآخر ولو بإيذائهم وطرحهم أرضا فإذا حاول الحكم أن يحل المشكلة ويصلح الوضع شغبنا عليه وأزعجناه وأخرجناه عن طوره ولو كان أحب معلمينا إلينا.

- وكنا في بعض الأحيان إذا شعرنا بالهزيمة وأن الفريق الآخر تفوق علينا وانتهت الحصة ونحن لم  نشتف منه تجمعنا وتواعدنا وتعاهدنا وتحالفنا على أن نرد لهم في الحصة القادمة دون تأخير وقد يصادف أن تكون الحصة القادمة في نفس اليوم بسبب غياب أحد المعلمين.

وبعد ألا تشبه هذه الذكريات والمشاهد القديمة ما يدور في ساحتنا الثقافية اليوم من مشاهد مماثلة.

أظن- وبعض الظن إثم- أن بعضا ممن يشاركون في المشهد الثقافي اليوم قد يكونون ممن يعاني  اضطرابا يسمى في علم النفس النكوص والارتداد وغالبا ما يصيب الأطفال حيث يجعل بعضهم حينما يواجهون مشكلات في حياتهم يحاولون الرجوع إلى مراحل سابقة من حياتهم سعيا منهم للتخلص من الضغوط التي يعانونها.

ومرة أخرى أكرر للمتعجلين في القراءة ممن يستعجل الحكم دون قراءة واعية لأقول إن كلامي عن بعض...وضع تحتها خطا حتى لا نرجع مرة أخرى لممارسة الركض والركل كيفما اتفق ودونما هدف.

ذكرى/ من كان حاله وهو ابن ثلاثين كما كان وهو ابن عشرين فقد أضاع عشر سنين من عمره.

كتبه/ أبوبكر بن محمد
15/11/1431هـ

0 التعليقات :

إرسال تعليق

 
بوح قلمي ،،، أبو بكر بن محمد | by TNB ©2010 وتم تعريب القالب بواسطة مدونة نصائح للمدونين .